عرض قرطاج 2025: الموسيقى كلغة للروح

على ركح المسرح الأثري بقرطاج، في سهرة 8 أوت 2025، قدّم الفنان كريم ثليبي عرضاً موسيقياً تجريبياً بعنوان "تخيل.. روحك تسمع"، ضمن فعاليات مهرجان قرطاج الدولي.
لم يكن العرض مجرد أداء فني، بل طقس ركحي مركّب تقاطعت فيه الأصوات والصور والأجساد والظلال، ليصوغ تجربة إصغاء عميقة تسائل الذات والذاكرة، وتستحضر الماضي لتفتح أبواب التفكر في الحاضر والمستقبل.
في قلب العرض، تحولت الأوركسترا السمفونية التونسية، بقيادة محمد بوسلامة، إلى حقل تعبيري نابض، حيث لم تكتفِ النوتات الموسيقية بنقل الألحان، بل حاكت الحنين والشجن والتوتر الدفين.
الكورال، بأصوات أوبرا تونس، لم يكن مجرد جوقة، بل كينونة سردية تحتج وتهمس وتتذكر، مع أصوات فردية حملت الموروث كنبض حي، مثل صوت ناي البرغوثي الممزوج بدفء الحكاية وحدة الاحتجاج، وزياد الزواري الذي استحضر من كمنجته حساسية النغم، ومحمد علي شبيل الذي نبش في القلق الوجودي.
امتدت الحكايات من تونس إلى فلسطين، حاملةً وجع الحب والحرب. تغنّى ناي حسين بن ميلود عن الآهات والعبرات، مدعوماً بصوت صابر رضواني المعمد بالذاكرة.
وفيما ناجى هادي فاهم غيتاره، تجلّت أجساد الراقصين كأنها تتنزل من السماء، بينما تبدّت الصور على الشاشات بين النور والعتمة، وصدح بهاء الدين فضل بصوت يفتح زهرة الروح.
إيقاعات حمدي الجموسي ونصر الدين شبيل شكّلت أنفاساً موسيقية، بينما فتح صوت الممثل محمد بن مراد أبواب المخيلة، مستحضراً وجع أم مكلومة عبر كلمة "شقف" المحملة بالآلام والأحلام.
استمد العرض روحه من رواية "غدًا يوم القيامة" لمحسن بن نفيسة، وإخراج ركحي لوليد الدغسني، ليتجاوز الحكاية المكتوبة نحو تشكّل نفسي وركحي. لم يكن "تخيل.. روحك تسمع" إعادة تقديم للتراث، بل تفكيكاً وإعادة تركيب بأسلوب معاصر، حيث تراوحت المقامات بين القديم والمبتكر، وتسربت أسئلة حول كتابة التراث بلغات موسيقية جديدة.
العناصر البصرية، من حركات الضوء والظلال، ترجمت التحولات النفسية، مكونةً مشهداً متعدد الطبقات صوتياً وجسدياً ودرامياً.
في ذروة العرض، استحضرت ناي البرOtra
البرغوثي ترنيمة فلسطينية، مرفوقةً بصور غزة التراجيدية على الشاشات وأصوات الكورال الموشحة بالكوفيات. كلمات امرأة فلسطينية عجوز، "شدو بعضكم يا أهل فلسطين"، التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي، تحولت إلى صرخة موسيقية تحمل وجع الجوعى والجرحى وأمنيات الشهداء.
"تخيل.. روحك تسمع" لا يحتاج إلى تحليل أكاديمي، بل إلى آذان تُحسن الإصغاء، وأعين تجيد التأمل، وقلوب تسمح للدهشة أن تسكنها. إنه عمل يراهن على الصمت بين النغمات، والثورة في الجمل الموسيقية، والمقاومة في إعادة صياغة المعنى، تاركاً الجمهور ممتلئاً بالنغم والحيرة والمعنى.